موسم التزاوج، لسمير رضوان

الزمان: سبتمبر .. حيث حرارة الشمس في صيف قائظ بلغ العناء مبلغه دون جدوى في محو ذلك اللون الكئيب!!!

المكان: دبركي .. تلك القرية القابعة في أعماق الريف المصري.
اللون: الأخضر سيد المكان وملك الألوان في تلك الأيام.
***
ربما يتبادر للأذهان أن خضرة المكان وخرير الماء يريح الأعصاب ويشرح الصدر ولا ينقص هذا المشهد إلا فتاة حسناء من بنات الريف حتى تكتمل الصورة.. (ثلاثة يذهبن الحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن) هذا صحيح؛ لكنه هنا شيء آخر!!!!
***
صيف هذا العام يخيم على الوادي والدلتا اللون الأخضر بكآبته ، وينشر أذرعه العنكبوتية فتلتفَّ حول رقاب الفلاحين فتخنقهم العبرات، ويجثم على صدورهم فتخرج الزفرات.. وفي الجانب الآخر من المشهد تجلس (صابرين) متكئةً بخدها الأيمن على كفها، تترقب في يأسٍ انزياح هذا اللون وتلاشيه.
تسرح بخيالها في حكايات أمها (سعدية) عن لقائها الأول بأبيها، حين التقت النظرات وتسارعت دقات القلبين في إيذان بتآلف الروحين وتعانقهما إلى الأبد.. يهرع الفتى إلى أمه، وهي جالسة أمام الفرن وعبق الخبز يفوح في الدار..
– أمي: ما رأيك في سعـــــ…… !! يتلعثم لسانه، ويتصبب جبينه عرقًا ØŒ فحرارة الموقف تطغى على اللهيب المنبعث من الفرن.
– تقاطعه أمه: عاوز تتجوز سعدية؟!! وضحكتها البريئة وابتسامتها المشرقة تمسح عرق جبين ابنها.
***
دار بسيطة .. يعلوها سقف مسقوف بعروق خشب التوت وأعواد البوص، مجموعة من الرجال يفترشون حصيرا من الخوص وسط الدار… تنبعث من الداخل أصوات النسوة والأطفال.. الفرح ينشر ابتسامته على الوجوه، وتداخل أصوات الزغاريد يرن صداها في الأجواء… إنها الخطوبة !!!
– الفرح والدخلة – إن شاء الله – بعد جني محصول القطن.. مع أفراح عائلة صقر والسقا وغنام والدناصوري والمعداوي والحناوي.. هكذا يتفق الحضور ويقرأون الفاتحة.
***
تفيق صابرين على صوت خطيبها .. تنظر إليه ومسحة الحزن تخطف بريق جمالها، وتقول في تثاقل: إلى متى الانتظار؟؟!!! ثلاث سنوات عجاف .. وزواجنا يتأجل السنة تلو الأخرى، ماذا حدث لهذه اللوزات اللعينة حتى تصاب بالعقم فلا تتفتح، لقد تلاشت الزغاريد، حتى ضمرت حناجر النساء، تتذكر مثل هذا الموسم منذ خمسة أعوام كيف كانت الشوارع تعج بالولائم، والليالي تتلألأ بأنوار الأعراس؟! أتتذكر تلك الليلة التي نظرتَ إليَّ فبادلتك النظرة بابتسامة خجولة؟؟
يطأطئ رأسه.. يخبئ دمعاته براحة يده.. يعبث بعود في التراب: يا له من لوز لعين !!!! ثم يستدير إلى الخلف ويتلاشى بين غابة من سيقان القطن.. يخيم الصمت على المكان الذى استوحشته الجن قبل البشر إلا من همهمات صابرين: أخشى أن يخيم علي سن اليأس قبل أن يحل موسم التزاوج!!!

سمير حسن رضوان زغلول
دبي – مجموعة قصصية بعنوان (النهر الجاف)

Related posts

Leave a Comment